فيها صورة استعارية قديمة هي "اقتربت الساعة"، فالاقتراب عمل الكائن الحي استعير لمعنى معقول غير حسي هو "الساعة". وإضافة فعل الاقتراب إلى المعاني المعقولة أصبح استعمالاً عادياً لا يثير في السامع أي إعجاب، فنحن نقول: اقترب موعد الحفل، واقترب الأذان، وهكذا. وهذا يعني أن الأستعارات تموت بمرور الوقت أيضاً وتتجدد على طريقة تناسخ الأرواح. فقد تتحول الصورة الاستعارية عبر الوقت إلى عبارة نمطية عادية، ثم تتحول العبارة النمطية بمعالجة معينة وبمرور الوقت إلى صورة استعارية. الشاهد أن وقع هذه الصورة الاستعارية الجمالية على السامع العربي لم يعد مؤثراً كما كان وقعها على المتلقي العربي الأول.
وهناك الكثير من الظواهر الأسلوبية في القرآن التي أصبحت مألوفة للسامع اليوم لا يعرف العربي الحديث قيمتها الجمالية ولا تثير فيه رعشة الجمال الفني، لأنه يقيسها إلى ما يعرف من اللغة، لكنه لا يعرف أن اللغة التي يقيس إليها اليوم هي التي صنعها القرآن نفسه عبر 1400 سنة. ولو أنه قاسها إلى لغة الجاهليين لعرف الفرق، ولعرف لماذا سلم العربي القديم ببلاغة القرآن وقال عبارته المشهورة: إن به لحلاوة وإن عليه لطلاوة وان أعلاه لمثمر وان أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه.
لقد كنا نقرأ هذه العبارة النقدية التي نسبت إلى الوليد بن المغيرة دون أن ندرك فحواها، واليوم بعد أن درسنا الشعر الجاهلي، ودرسنا النقد الأدبي في عصوره المختلفة أدركنا عبقريتها. أجل إنها عبارة عبقرية وصادقة، ولو أتيح لي الوقت لشرحها كما أفهمها لاستغرق ذلك كتابا كاملا. والأمر المهم فيها هو أنك لن تفهمها جيداً إلا إذا عرفت لغة الشعر الجاهلي. لأن الوليد - أو قائل العبارة - كان يقيس القرآن إلى الشعر الجاهلي، لا إلى العربية التي شكلها القرآن بعد الإسلام كما يفعل خصوم القرآن اليوم.
ولهذا أعد الوليد بن المغيرة أحد أهم نقاد الأدب في العصر القديم، ومن الغريب أن يتجاهله مؤرخو النقد الأدبي!. لأن عبارته من الناحية الفنية أقوى وأعمق من كل العبارات النقدية التي رويت عن النابغة الذبياني وعمر بن الخطاب وغيرهم في نقد الشعر.
هذا بالنسبة لعبارة "اقتربت الساعة"، أما بخصوص العبارة الثانية "وانشق القمر" فهي عبارة شعرية خفيفة الظل، قامت على انزياح جمالي عبر التلاعب بالزمن فيها: زمن الصيغة وزمن الحكاية. أما زمن الصيغة فهو الماضي "انشق"، وأما زمن الحكاية فهو المستقبل. ويدل على كونه زمن المستقبل السياق نفسه الذي بدأ بعبارة "اقتربت الساعة". فالحديث عن المستقبل وليس عن الماضي. ولأن المفسرين والفقهاء المتقدمين لم يستوعبوا هذا الانزياح (العدول) ذهبوا يخترعون قصة انشقاق القمر المعروفة في الماضي.
وانشقاق القمر هو حدث مستقبلي طبيعي مثله مثل "اذا السماء انشقت" أي انفجرت وانفطرت. وقد قيلت بهذه الصيغة في القرآن نفسه "إذا السماء انفطرت". وانفطار السماء والقمر وانشقاقهما يعني اختلال النظام الكوني، وانفراط عقد الكون، أو نهاية الكون بلغة الفيزيائيين المحدثين. ولو أن المفسرين لجأوا إلى القرآن نفسه ما احتاجوا لاختراع روايات تبرر عبارة "وانشق القمر"!.